لا يخفى عن القاريء مدى اهمية "الحالة" الان في حياتنا الفيسبوكاوية. اصبحنا ندمن "الستاتس" و نتفنن في جعل الكلام ما قل و لكن دل، ان تكون معبرة، مضحكة، مؤثرة ان سلبا او ايجابا، و ان تكون حاسمة قاصمة.
في البدء عزفت عن التدوين حتى اني اغلقت المدونة لفترة الشهر، ثم اعدت افتتاحها ثم اني اوقفت العمل بها لفترة اخرى على امل المعاودة لكن هيهات، حتى وصلت لمرحلة اني لم اعد " ادون" الا كل حين و اخر و بمستوى لا يقال عنه انه اسلوب كتابي البته، بل اقرب ما يكون الى ذكر حقائق فقط ، الاعلان عن تضامنيات هنا و هناك و هلم جرا.
كل هذا و لم افطن الى فيروس الفيسبوك الذي استشرى في عصب قلمي فلم اعد اتمكن من كتابة موضوع وحد الا نادرا و اما الباقي ما هي الا محاولات لكتابة مواضيع ذات افكار جيدة جدا، واضحة في مخيلتي جدا، الا انها تنتهي كشراذم بقايا ورق محروق تقبع مبعثرة في صفحاتي هنا و هناك.
وقفت كثيرا امام حالتي، فحرت لها جوابا، ثم وجدت ان اخرين في نفس هذة الحالة و ان اختلفت الظواهر و حدة الوضع صعودا و هبوطا.
كنا قديما نشرع في كتابة " تدوينة" فنذكر ما نذكر، موثقا بمراجع، و معززا بفيديو ان امكن، و مشروحا بصور فتخرج التدوينة ولا اروع، بل احسن من مواقع اخبارية لها سمعة اسمها العريق حتى و ان لم تكن ذات مصداقية يعول عليها.
ثم بدأ البعض ممن المدونين نشر تدويناتهم كنوتة على صفحات الفيسبوك. قد نستطيع اضافة صورة، لكن لا مجال لوضع روابط بشكل منمق و محترف كالتدوين و لا مجال لالحاق فيديوهات . بالاضافة ايضا لمحدودية قراء الفيسبوك حتى و ان نشرت النوتة في مجموعة لها من الاعضاء المئات و الالاف. كان التدوين يُشاهد و يُقرأ بمئات الالاف و ما خفي كان اعظم. اننا فعليا كنا ننشر غسيلنا على الملأ، حتى انه في فترة معينة كانت هناك محاولات اتصال بنا من غير العرب ك "ديفيد سانتوس" البرتغالي المشهور و لورن صاحب مدونة "كنافة".
اتذكر ذلك الوقت الذي كان فيه وائل عباس ينشر البوست فلا تستطيع التعليق او فتح الصفحة من كثرة التحميل عليها.
ايضا اتذكر ذلك الوقت الذي كان يمتعنا فيه معالي "قداسته" بتدوينة لا تقل عن ثلاثة اجزاء تجعلنا نحن القراء "نلف و نرجع تاني و نقول يا سلام يا سلام يا سلام" حتى و ان اختلفنا معه. و ان اختصر و كتب ما يوزاي ستة اسطر منقولة من كتاب يقرأه، فهي ستة اسطر كفيلة بأشعال نقاش يحتدم و لا ينتهي و قد تنتج عنه مدرسة فكرية جديدة ان شئت، حاولت ذكر امثلة على سبيل المثال وليس الحصر ففشلت، اترك لكم حرية الغوص في غواياته.
اذكر فيمن اذكر، فارس قديم بتدويناته نظام "تشطيب لوكس" فلا تستطيع معها جوابا، اذكر صديقي الواقف على باب الله و مفاجاته المتعددة في ازقة " استغماية"، اذكر عبده باشا الواقف راصدا لكل شيئ من اخر حارته الغنية بالتفاصيل و القصص و الخيالات و اسلوبه السهل الممتنع المبهر البسيط في ان واحد، اذكر ايسوب الحكيم المعروف بهاني جورج و انتيكاته الساحرة اللمسة. اذكر ميزان العدل الواقف دائما مع الحق، كل الحق ولا شيء الا الحق، شريف عبدالعزيز و اذكر اخرهم توأم التدوين ، ذو النون المصري.
اما عن رفيقات التدوين، فمن صاحبة القهوة العالية اخر مزاج، لاخرى تجلس على القهوة كل حين و اخر فتتحفنا بنظرتها المغايرة لما نعهد عليه الحياة و يوميات العقرب المتساءلة الموغلة في واقعيتها، و صاحبة العشب الاخضر و قصص الملابس الرائعة و اما اخرهم سيدة "الحرملك" التي تهديك القنبلة تلو الاخرى و لكنك تتلقاها كما لو انك تتلقى بوكية ورد، و ما بينهم قطة الصحراء التي خلناها قطة، فأصبحنا عليها اسد و الرجال قليل.
عذرا للاطالة، و ما سبق ذكره ليس حصرا و لكن فقط على سبيل المثال ليس الا.
اذكر كل هؤلاء و اقول اين هم الان؟
اغلبهم أصدقاء لي على الفيسبوك، اعترف اني لم اعد اتابع المدونات الا لماما و مع ذلك سمحت لنفسي بعمل تقييم سريع و جُزافي لكمية و كيفية التدوينات لمن وردوا اعلاه، فوجدت ان الحال مشابه نوعا ما لحالتي الراكدة و ان اختلفت مستويات الركود. رفقا، هذه ليست تهمة موجهة او حكم، فقط ملاحظة ،قد اكون اصبت او اخطأت فيها،و استنتاج لا اقول انه مبني على حقائق و ارقام و وقائع موثقة.
قلل منهم ما قلل من كمية كتاباته مؤخرا، لكن تبقى الجودة على نفس سابق عهدها. مازال البعض مستمرا في كتاباته بشكل دوري و مكثف و لكن احس ان هناك شيء من الحماس مفتقد.
شطحت بكلامي؟ نعم، فها انا اعترف لكم ان الفيسبوك قد اثر عليَ فلم اعد على التركيز صبرا كما كنت قبلا. و لكني قررت ان التزم بإرادة ان اجلس و ان اكتب شيئا ما مطولا قليلا، حتى و ان عددتموه سخيفا ممجوجا، لي هدفي و ارجو ان عليه أُعان.
ذلك ان كثر التفكير على هيئة "ستاتس" و الاختصار الذي اصبح سمة لنا شئنا ام ابينا، وعينا له او تسرب في غفلة منا الى خلايا عقلنا، و اننا اصبحنا متمرسين في التعليقات الموغلة في الايجاز، و الردود البسيطة السهلة ، فإن ذلك اثر على البعض منا و بسببه اصبحنا سريعي الرضا من ناحية التعبير عن النفس و تلقي التواصل التابع لها.
الم يكن هذا من ضمن اهم اهداف او اسباب التدوين الاولى؟ للتذكرة فقط ليس الا، التدوين على الانترنت ما هو الا تدوين ما كنا نكتبه في دفاترنا الشخصية ليتحول الى الملا. و لنا ان نعترف اننا تاثرنا بالتدوين و عمل فينا اثره، و اصبحنا نفرق بين ما ينشر و ما لا ينشر. و ليست هذه بسلبية بتاتا، بل انها خلقت مستوى للاحتراف في الكتابة، فما كنا نكتبه "بالمفتشر" اصبحت هناك الكثير من الوسائل لتوريته و جعله محببا للنفس بدون اشمئزاز لذكره.
لماذا اكتب ما كتبت؟
قد يعتبر البعض ردي التالي مبالغا فيه و لكن حقا اني اخشى يوما لا نستطيع معه كلاما و كتابة و مناقشة. ان نتحول لشخصيات مختزلة، قصيرة الأمد، سطحية التعبير و بسيطة المحتوى من بعد ما كنا عقليات عميقة التفكير، طويلة النفس شدا و جذبا، صاحبة رؤية و رأي و تسعى لنهل ثقافة اصيلة من مصادر حقيقية موثقة.
مقالتي هذه وحدها دليل على ما آل اليه حالي انا الشخصي، فأنا افكر في هذا الموضوع ما يقارب الثلاثة اشهر، ان لم يكن اكثر،تذهب الفكرة و تعود و في كل مرة ارى نتائج جديدة و اكتشافات مختلفة. قبلا كانت الفكرة، فالبحث، فالتدقيق ثم التوثيق و المراجعة و اخيرا البوست كل هذا في غضون عدة ايام قلائل و ينتهي الامر.
لكن الان فإن عقلي مُصر على تحديد الموضوع في شكل "ستاتس" و لا يريد لها تطويرا و لكن يبدو ان الفكرة و حجمها هذة المرة كانوا اقوى من قيود و حدود العقل، فخرجوا من حظيرته بعد جهد جهيد، لولا انني لم انجب بعد، لقلت ان الامر اشبه بمخاض عسير.
هناك ما يقلقني على المدى البعيد، فمن ثقافة النت (تدوين ثم فيسبوك) و ويكيبيديا (العربية منها خصوصا) التي اصبحت المرجعية الاولى المعتمدة لاغلب القراء و المشاركين، الى العدد المتتالي من وفاة اصحاب العقول الاصيلة من كُتاب و صحافيين و رسامين و مفكرين و فنانين من كل نوع في هذة السنة تحديدا و في اخر خمس سنوات سبقت، ارى ان هناك فراغا ينتشر لا يتبعه احلالا بأخر، و ان تم الاحلال فلا نفس الخلفية القوية و لا الثقافة المتأصلة و لا التفكير العميق المتفرد بشخصية صاحبه
اما سؤالي الغير منطقي هو
ماذا نحن فاعلون؟
بعد الانتهاء من كتابة هذه السطور، وردني خبر وفاة محمد اركون، افذزدادت غصتي ولا عزاء للاجيال القادمة.
تحياتي
تمت الدوحة 14سبتمبر2010