لم اكن لاتخيل اني سوف اصبح يوما ما من اشد المعجبين بنجيب محفوظ و للاسف كلمة معجبين كلمة سوقية جدا للتعبير عن مدى حبي و تقديري و اعزازي لهذا العلامة الفذ القدير.
اتذكر سنة 1988 و أنا ذات احدى عشر ربيعا اني قرات عنه كأول كاتب عربي يحصل على جائزة نوبل للاداب و ببرائتي المعهودة فرحت فخرا فقط كونه عربيا. قبل ذلك كان اسمه مقرونا بالثلاثية فقط و كيف ان هذه القصة تروي تحكم اب باطش بأهل بيته مع انه ماجن و فاسق خارج البيت و كيف ان هذا لم يقع في هوى نفسي فبعدت عن هذه القصة السمجة و هذا المؤلف المستخف بعقولنا. و كنت في هذا الوقت ما زلت مبتدئة مع انيس منصور اقراء له في صالون العقاد و 200 يوم حول العالم و اتابع عاموده اليومي في الاهرام. تمر الايام و السنين و اقراء خبر تعرضه لاعتداء بهيم من حمار متنكر على هيئة بني ادم انتقاما لما يسمى الشريعة الاسلامية و ذلك لما يعتقدونه تطاولا على الذات الالهية و الانبياء المقدسين عليهم جميعا السلام. اهتز لهذا الخبر و اشعر بغضب شديد" لم يقترف هذا الرجل شبئا حتى يحدث ما حدث!! و حتى اذا كان تطاول فحسابه عند ربنا لو كان زعله!!!" ؟؟
اسال جدي المتشدد دينيا جدا لاتفه الاسباب و لسبب بحكم عمله كمستشار ديني عن رايه في محفوظ و أنا ذات السادسة عشر عاما فيقول لي ما معناه ابتعدي عن كتبه فهو مثير للجدل و لقد اساء لصورة الرجل الشرقي في الثلاثية.و لم يكن جدي المسكين يعلم انه و باستخدامه كلمة " مثيرة للجدل" قد ضغط على زر "العند" بداخلي و جعلني اقرر انه في اول زيارة لمكتبة ما سوف اشتري أي كتاب له حتى ارى ما هو هذا النجيب محفوظ و ما هو المثير للجدل حوله.
تمضي عدة اشهر و نصل لفصل الصيف و اقابل فيها والدي الذي كان مسافرا فيسالني اذا كنت قد قرات لمحفوظ، و لم اكن بعد، فارد بمنتهى الألاطة لدونما سبب بأني قد قرات له و اعتقد انه سخيف و لا معنى معين لكلامه، فيستنكر ابي ذلك مني و يفقعني بلحة على ام راسي اشارة منه لوجوب توقفي عن هذا الهبل ثم يجلعني اقسم اني بالعفل قد قرات نجيبا و لكني لم استطع الكذب الى هذه الدرجة. فقال لي ابدائي بالقراءة له من الان
( كنت قد بلغت السابعة عشرة لتوي) لان فهمه و من ثم الاستمتاع به يستلزم مدى الحياة. لا تضيعي وقتا. اعمل بنصيحة ابي فأبدا فورا بأخذ قصص محفوظ من مكتبة ابي و اضرب عليها طناش و تنقل بقدرة قادر الى تحت سريري الذي كنت اعتبره بمثابة مكتبتي الاولى.
ابدا بمجموعة " همس الجنون" لإنتهي منها في ستة ساعات فقط مختبئة في غرفتي و مقنعة اهل البيت اني اذاكر و " سانة سناني" على اولى جامعة.
تبهرني همس الجنون كمجموعة قصصية من قصرفي الاحداث الى تتابعها الساخن ثم اكتشاف هذه اللغة الجديدة و التساؤلات التي تضرب نافوخ العقل و انتهيت منها و انا مصابة بداء وجه اللي ندهتها النداهة.
تتوالي السرقات الادبية من مكتبة الوالد حتى ابدا في عمل صيفي و انا ذات العشرين فأقرر ان مرتب العمل سوف يذهب ريعه لشراء اكبر عدد ممكن من قصص و مؤلفاته و ركنت احلامي بشراء فستان و مكياج الى حين ميسرة. توالت بعد ذلك القصص و اعتقد انه الكاتب الاول و الوحيد على ما اعتقد الذي املك له كل مؤلفاته و كتبه و سيرته الذاتية .
اقراء له و كلما قرات ، كلما ازدادت دهشتي لهذا العالم الذي فتح على مصراعيه اما عقلي، اقرا له ، و كلما اقرا انتقل من بؤرة لبؤرة و يعتلي عقلي سلالم التفكير و يصبح عقلي جديرا بأن ينتشلني من مستوى الانسان حيوان مفكر لمستوى الانسان حيوان راقي. لا اذكر ترتيب شرائي للقصص لكن اذكر على سبيل المثال لا الحصر، السراب، الف ليلة و ليلة، ثرثرة فوق النيل، خمارة القط الاسود، عصر الحب، الحب تحت المطر، الكرنك، يوم قتل الزعيم، زقاق المدق، امام العرش، اولاد حارتنا، خان الخليلي، بيت سئ السمعة، المرايا، الشيطان يعظ، العائش في الحقيقة.
ثم جاءت الحرافيش و ما ادراك ما الحرافيش. و اللذيذ في الموضوع اني لم اكن اخطط لشرائها بشكل سريع و كلما اراها في المكتبات اجلت شرائها او استهنت ،لماذا ؟ لا اعرف.
كل ما في الموضوع اني كنت على سفر من القاهرة للدوحة منفردة و اصر اهلي على شراء شئ يمكنني قراءته حتى اسلي وحدتي فتطوع زوج خالتي بالذهاب لشراء مجلة و ذهبت معه. وجدت ان مجلة الاخبار و التسالي تساوي عشرة جنيهات خس و ان رواية الحرافيش بعشرة جنيهات ايضا فقلت ان اشتري شيئا يبقى معي افضل من مجلة سوف ارميها بعد خمس دقائق فقط ، اي انني سوف ارمي اتنين جنية لكل دقيقة في الزبالة، والله يا بلاش و قلت بلاش فعلا.
امسكت بالحرافيش اول ما جلست في صالة الانتظار حتى تفتح البوابة.
" ييييييييييييه، يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم" ، اقترب مني" اخ" لكنه في الخمسينات من عمره، بدأ في " السلام عليكم" و " كيف حال اختي المسلمة العفيفة" رديت السلام باحسن منه. ثم فوجئت بالراجل بيطلع لي كتيب اذكار المساء و السهرة و رماه على شنطتي من باب عدم لمس المرأة العورة و بنظرة استهتار قال لي " مش تقري الاذكار دي احسنلك و افيدلك من القصة البذيئة دي؟؟" دي حتى اسمها مش نضيف الحرافيش؟؟ حرافيش ايه يا بنتي ، لا حول و لا قوة الا بالله، اقرأي مثلا اختي المسلمة اين حجابك، و لا شروط المسلمة الصحيحة ، بدل القصة دي اللي لا تودي و لا تجيب". شكرته من نخاشيش قلبي و اعطيت الكتيب لسيدة تجاورني المقعد و لم انظر له و عدت اقرأ القصة. و لكن الاخ لم يعجبه العجب و ظل يحوم حولي مثل ذبابة سكرانه مستغفرا ربه و متحوقلا بالنيابة عني.
لم يكن ما فعلته من تجاهل له نابعا من قلة تربية من ناحيتي و الحمدلله و لكنه اقحم نفسه و فرض رأيه بدون وجه حق.و لما ظل متمسكا على موقفه كانت هذه اشارة لي بوجوب تمسكي انا ايضا بحقي لاني من الاشخاص الذين يؤمنون بالأشارات و العلامات و ما الى ذلك من اشياء غير محسوسة بشكل مادي بحت. اشكر الله اني كنت صامدة في وجه الرجل الخمسيني ثقيل الظل و لم اتردد و ارجع للتراث الغبي بوجوب احترام كل الناس الذين يكبرونني مهما اساءوا الي.
اخيرا دخلت الطائرة و كان مقعدي بجانب الشباك فحمدت الله حتى لا ينقطع حبل قرائتي من الجالسون بجانبي مثال" لو سمحتي عاوزة اروح الحمام" او " ممكن شوية لو سمحتي عشان عاوز اقوم اتمشى" الخ الخ.
بدأت الرواية مع بداية الرحلة و بعد قراءة دعاء السفر و هوبا غرقت تماما في صفحاتها. بعد ساعة و نصف كنت قد انتهيت من اول فصل، عاشور الناجي، و هذا يمثل عشر(بالضمة على العين) الصفحات. اصابني نوع من الشلل العقلي و تساءلت" اذا كان كل هذا قد حدث في هذه الصفحات القليلة، فماذا يا ترى يخبئ محفوظ في باقي الصفحات؟؟ و كنت في حالة لا يعلم مداها الا الله و المطلعون على سرائر القلوب و دواخل العقول. بالنسبة لي كانت هذه امتع رحلة جوية اقوم بها في حياتي، فلشدة اهتمامي و انغماسي في القراءة لم استشعر توتر الطيران الذي يصيبني عادة وقت السفر و لا رهاب الشرطة و الجوازات و ذلك لدوام حدوث خناقات بيني و بينهم بشكل متجدد و سنوي.
في هذا اليوم لا اتذكر من استقبلني من اهلي و متى وصلت. كل ما اتذكره انني ظللت ممسكة بالرواية في يدي اقلب صفحاتها حتى انثنت الصفحات مكان عقلة اصابعي.
اذا قلت اني وصلت مثلا يوم الخميس ليلا فاعتقد اني انتهيت منها يوم السبت صباحا ، لم افعل اي شئ البته غير قراءتها مرة واحدة.
كلماتي تعجز عن وصف اثر هذه الرواية في و علي و لكن اذا كنت انتهي من اعادة قراءة روايات محفوظ مرة كل عام ، فأني انتهي من قراءتها ثلاث مرات على الاقل كل سنة.
و الى الان ما زال شغفي بها و ولعي باحداثها كأني لم اقراءها بعد، لماذا؟ لا اعرف و لكني اعرف انه ما من مرة قراءتها الا و اكتشفت شيئا جديدا. و عادة ما احلل او اكتب تعليقي على كل رواية عند الانتهاء منها، الا الحرافيش ، تبدو لي كجوهرة محاطة بزجاج يحميها، استطيع ان اراها و لكني لا استطيع الامساك بها. هكذا الحرافيش، استشف روعتها و لكني لا اقدر على الوصول لسر سحرها. اهي حقا قصة عائلة حقيقية مشهورة بكونها قبضايات؟ ام هي نبوءة تحضرنا لاخر الزمان و تؤهلنا لكيفية انتظار المهدي المنتظر اذا كان اصلا له وجود؟ ام هي فقط قصة رمزية بأبعاد بالغة التعقيد تتحدث عن مكنونات الحياة و عبرها؟ ام هي فقط وصف لعصر من عصور القاهرة الفاطمية ليس الا؟؟؟؟
كل هذا اتذكره و اتذكر معه يوما مثل هذا اليوم فقط قبله بعام واحد. كان قد مضى على وصولي لامريكا ما يقارب الاسبوعين واكتشفت اني في خضم الحياة الجديدة لم اتمكن من متابعة اية اخبار حتى لو على موقع الجزيرة. فتحت الموقع اتفحصه فقط لاجد خبر وفاة محفوظ يتصدر الصفحة. اتذكر ان الوقت توقف لوهلة بدت لي كدهر، اتذكر انني لم استوعب و لم ارد ان استوعب انه مات و لكنني تذكرت ما حدث من يوليو لنفس العام. كنت متوجهة في زيارتي المعتادة لحبيبي امام الشهداء سيدي الحسين و صادفت الروائي الجليل جمال الغيطاني و توقفت لاسلم عليه و ذكرته بمحاضرة القاها في جامعة قطر عندما كنت طالبة. ثم ذكرته بتطاول طالبة جهل على محفوظ قائلة انه يستحق ما حدث له في اشارة للاعتداء البهيم الذي وقع عليه. ضحك الغيطاني و قال" ملحقتش ارد عليها و اصلا اشفقت عليها لجهلها لكني فوجئت بطالبة اخرى بترد عليها و مسحت برايها الارض" ضحكت و قلت له انني كنت هذه الطالبة الثانية فابتسم و سالني عن نفسي لبعض الوقت. رددت باقتضاب ثم سألته عن محفوظ فرد بشئ من الاسى و ذكر ان حدة مرضه قد اشتدت و ربنا يستر. طلبت منه ان يسلم عليه و يبلغه ان السلام من واحدة بتحبه فتبسم و قال " انا متاكد انه لو شافك حيحبك انتي كمان"
اتذكر هذا الحوار فأستوعب ان محفوظ قد توفي فعلا. فتنهمر دموعي كبركان ماء لم استطع توقيفه على مدار يومين و وددت لو اضرب نفسي بفازة لعل الغباء يتطاير و لو قليلا من عقلي" لم لم اطلب من الغيطاني ان يحدد لي لقاء معه؟؟ ام\لم تكن احدى امنياتي ان لم تكن اهمها ان اقابل محفوظ و لو لخمس دقائق؟؟ و لكن " ساعة القدر يعمي البصر".
مازلت حزينة على وفاته، ربما لانها حدثت و انا في غربة عن الاهل و الوطن و المعتادات فاحسست بغربة اشد. لم يواسيني في غربتي الا خطيب صديقتي الايطالية. كان قد تعلم اللغة العربية باقتدار و عاش في القاهرة لمدة ستة شهور على ما اعتقد. حدثني قائلا انه اعتاد الذهاب يوميا لكل المقاهي التي كان محفوظ يرتادها حتى يحظى منه و لو بسلام لكنه لم يكن محظوظا. قلت له ان نجيب توقف عن الذهاب الى المقاهي نظرا لضعف صحته مؤخرا.
بكينا انا و اندريا كالأطفال حتى جاءت سيرينا و طيبت خاطرنا.
الان هدأت نوعا ما و لكن كلما امسكت بقصة له اتذكر ان هناك شمعة قد انطفئت تاركة من يريدون الفهم وتعلم الحياة في ظلمة حالكة يتخبطون في متاهات حكمة الله عز و جل لا يملكون الا ايمانهم.
دمتم
اتذكر هذا الحوار فأستوعب ان محفوظ قد توفي فعلا. فتنهمر دموعي كبركان ماء لم استطع توقيفه على مدار يومين و وددت لو اضرب نفسي بفازة لعل الغباء يتطاير و لو قليلا من عقلي" لم لم اطلب من الغيطاني ان يحدد لي لقاء معه؟؟ ام\لم تكن احدى امنياتي ان لم تكن اهمها ان اقابل محفوظ و لو لخمس دقائق؟؟ و لكن " ساعة القدر يعمي البصر".
مازلت حزينة على وفاته، ربما لانها حدثت و انا في غربة عن الاهل و الوطن و المعتادات فاحسست بغربة اشد. لم يواسيني في غربتي الا خطيب صديقتي الايطالية. كان قد تعلم اللغة العربية باقتدار و عاش في القاهرة لمدة ستة شهور على ما اعتقد. حدثني قائلا انه اعتاد الذهاب يوميا لكل المقاهي التي كان محفوظ يرتادها حتى يحظى منه و لو بسلام لكنه لم يكن محظوظا. قلت له ان نجيب توقف عن الذهاب الى المقاهي نظرا لضعف صحته مؤخرا.
بكينا انا و اندريا كالأطفال حتى جاءت سيرينا و طيبت خاطرنا.
الان هدأت نوعا ما و لكن كلما امسكت بقصة له اتذكر ان هناك شمعة قد انطفئت تاركة من يريدون الفهم وتعلم الحياة في ظلمة حالكة يتخبطون في متاهات حكمة الله عز و جل لا يملكون الا ايمانهم.
دمتم
*مازلت متيمة بالاغلفة القديمة و رسومات جمال قطب الرائعة و مع اعجابي للطبعات الجديدة التي تقدمها الشروق لكن تبقى الاغلفة القديمة ذات تاريخ متعلق بنشر كل رواية