حتما تحتاج سيارتي لغسيل من الداخل و الخارج و جميع الزوايا، مسكينة لم اهتم بها من فترة طويلة. وقفت في طابور طويل، تسبقني فيه سيارة هوندا ام بي في ذات دفع رباعي تقودها سيدة افريقية العرق. ترجلت من السيارة و جاءت نحوي، فتحت لها نافذة السيارة. اعتذرت على التطفل و قالت انها سوف تذهب فقط للصف الاخر حتى تملأ العربية بالوقود، فهل بامكاني انتظارها و الاحتفاظ بدورها في الطابور؟
وافقت، ففي جميع الاحوال يبدو اننا سننتظر لفترة طويلة. شكرتني، و لكن شيئ في لهجتها و ابتسامة محياها قال لي اني اعرفها من قبل.
منذ فترة طويلة لم اتذكر شخصا بهذه السرعة. يا الهي، لقد قابلت هذه السيدة مرة واحدة فقط و لمدة ساعة و نصف و لم تكن حتى صديقتي، بل تعارفنا عن طريق صديقة ثالثة كانت على وشك ترك مدينتي الحالية و كان سبب اللقاء هو حفلة وداع لها.
سالتها: هل تعرفين جودي جونز؟ فقالت : نعم اعرفها. فرددت اني قابلتها في مايو 2006 في حفلة وداع المذكورة انفا و لكنني وقتها كنت انحف و ارتدي حجابا. فقالت لي بالفعل تذكرتك، لقد كنت انتي الوحيدة البيضاء المحجبة في هذا الجمع.
اعتذرت لها اني لا اتذكر الاسماء و لكني لا انسى الوجوه حتى و ان رايتها مرة واحدة.
ذكرت اسمها فذكرت اسمي و من ثم سألتني: هل تودين البقاء لفترة ما في محطة الغسيل؟
رددت بالايجاب، و قررنا شرب قهوة او عصير لحين الانتهاء من العمل على سيارتينا.
جلسنا نتحدث في شتى المواضيع ، ماذا فعلنا من 2006 الى الان، ما الذي نطلع اليه و لماذا خلعت الحجاب وووو.
انتهت سيارتها فاضطرت للمغادرة و جلست وحدي لاكتب عن هذا الذي حدث.
اصبحت لا أؤمن بالمصادفات، و لكن صباح نفس اليوم كانت عيني اليسرى ترف بشكل هستيري فتنبأت لي احدى الزميلات برؤية شخص لم اره منذ زمن. لم اصدقها و اخنا نضحك و نتخيل ماذا لو كان فلان او علان و هلم جرا.
قبلها بشهرين كنت في مصر احضر حفل زفاف احد الاقارب فذهبت للكوافير لتجهيز شعري و ما الى ذلك من امور. ما ان جلست حتى جلست بجانبي فتاة سمراء رشيقة القد، منمنمة الملامح ترتدي حجابا بنيا يزيد من غمقة بشرتها لكنه يناسبها بشكل ما.
كعادتي الجريئة التي اصبحت عليها مؤخرا، مِلتُ عليها و سالتها ان كانت حضرت صفيها الاول و الثاني ثانوي في مدرسة يوسف السباعي في سنة كذا و كذا. اندهشت بشدة و لكنها اكدت صحة المعلومات، فقلت لها جملتي المعهودة " اسفه انا فاكرة وشك كويس اوي زي ما اكون شفتك امبارح لكن مش قادرة افتكر اسمك خالص".
(يبدو لي ان ذاكرتي صورية اكثر منها معلوماتية او كلامية و لا اعرف ان كان ذلك علامة ذكاء ام غباء)
ضحكت و قالت انا نرمين الشناوي. و في لحظة بدانا في استرسال عن ما حل لنا في خلال 18 سنة مضت، هي تزوجت و تطلقت من دون اولاد و تعمل مترجمة و تذكرنا ما كنا نفعله بمدرسة الالعاب سوزان"بقه" و مدرس العربي سيد " بوجي" و الجغرافيا عواطف " النايمة" و التربية الوطنية " سهير زكي"و كلما استرسلنا في سرد المصائب التي كنا نقوم بفعلها، كانت تنهار واحدة من العاملات في المحل ضحكا على شيطنتا المستترة.
لا لم نكن بريئات و لكننا لم نكن شقيات، فقط مداعبات المراهقة العذبة لطالبات ثانوي في قمة احساسهن بانوثتهن.
ثم تذكرنا نجوى ابراهيم، نعم هذا كان اسمها الحقيقي و ليس سخرية من المذيعة او منها. صديقة لنا اقل ما توصف به انها الطيبة و روقان البال و الدم المصري الخفيف، توفت نجوى في واحدة من توابع زلزال 1992 حين انهارت بها عمارتها مرة واحدة و اطبقت عليها كأنها طبق جيلو تم انزاله من قالبه فجأة.
وجمت كلانا، ثم تسألت نرمين: هل كانت انت من رشت مسؤول المشرحة حين اردنا التأكد من خبر وفاتها حتى يسمح لنا بالدخول للمشرحة؟
فهززت بالايجاب. فعدلت في جلستها و قالت لي انت مجنونة بينما توقفت العاملات عن العمل و سقطت من احداهن البكرة التي كانت تزيل بها شعر وجة احدى العميلات.
لم امانع نعتها لي بالجنون، فسالتني كيف رايتها و هي ميته و كيف تحملتي العودة للمنزل؟
قلت لها اني حالما رايت جسدها البني اللامع داخل الصندوق في الثلاجة لم اصدق و وصل الامر بي اني لمست اعلى كتفها، ما ان شعرت ببرودة لا متناهية حتى ابعدت يدي ببطء مرتخي جدا و بعدها لم اعد اعي كيف وصلت بيتي و لكن بقية الشلة قالوا لي ان هذا كان اكثر يوم رأوني فيه بيضاء كالشبح و عيوني متحجرة. اعادوني لمنزلي و هم في قمة الخوف من امي. لحسن الحظ و كعادة اغلب بنات مصر انهم في ساعة المرواح يذهبون معا و لذلك كانت كل واحدة منا تعرف بيوت الاخريات.
حل شيئ من الوجوم على المكان. احسست بثقل الذكرى علي و على نرمين و انا التي اعتقدت اني قد نسيتك يا نجوى.، لا لم انسك ابدا
غيرت نرمين مسار الحديث سائلة عن رقم تلفوني، اعطيتها الرقم ثم وجدتها تهتف سائلة عن اسمي، فضحكنا لاستغراقنا في الذكريات دون ان تعرف لي اسما. قلت لها: حفصة، شخصت بنظرها و هبت من جلستها و قالت: انتي حفصة؟؟ بس انتي كنتي رفيعة اوي و محجبة، ايه اللي حصلك؟
قلت لها بقيت كلبوزة و قلعت الحجاب. و لكن لم يكن هذا ما ازعج نرمين، ما ازعجها حقا هو اننا كنا اصدقاء مقربين و نتلاقى في كل فسحة ممكنة نتكلم مع عدة فتيات اخريات. حزنت نرمين لاني لا اتذكر هذا كله و حزنت انا لتدهور حالي، كيف انسى اصدقائي؟ صحيح اني تذكرت وجهها بعد 18 سنة و لكن كيف انسى من كنت قد اسررت لها بدواخلي ان وجودوا؟
اعتذرت لها و تفهمت هي و افترقنا على لقاء حتمي مع ايا كامن من بواقي شلتنا المصائبية الافعال.
ما بين انشغالي بمراسم ما قبل الفرح و الفرح و ما بعده و عملية والدتي المفاجئة، لم اتصل بنرمين، هي ايضا لم تتصل. ما من مشكلة.
اليوم تذكرتها عندما قابلت ميريام الافريقية و تسالت كيف اتذكر بقوة من قابلتها مرة واحدة حتى و ان لم اتذكر اسمها و كيف انسى عشرة سنتين دراسيتين بكل ما حملته من ذكريات حميمية و شقاوة بنات و اسرار خاصة و اقتسامات لسندوتشات الفول و الطعمية المهربة خلسة من مطعم الخيرات في اخر الشارع.
هل اتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟
سرحت بنظري في مجال محطة الغسيل هذه، حديثة البناء باسلوب يقدم خدمات عديدة بشكل راقي، تصليح و غسيل سيارات، اضافة لتعبئة البترول، يوجد مقهى انترنت و مكان للجلوس في انتظار الانتهاء من الخدمة ايا كانت. يوجد ايضا سوبر ماركت و مغسلة ملابس و تشحيم و صيانة اطارات. واو انه عالم قائم بذاته، اخذت اتجول حتى عثرت على اسم المحطة ، فوجدته
" سدرة"
(عند سدرة المنتهى)
ياله من اسم معبر، منتهى ابسط احلامي ان اجد مكانا انجز فيه الكثير من اعمالي، اختلي فيه بنفسي. مكانا يكون منتهى الاشياء و سدرة يوم غريب و ذكريات لم و لن تنتهي ابدا عن التدفق في تلافيف عقلي.
8 comments:
صعب اوى اننا نعلق على ذكريات غيرنا بس بجد وجعتنى اوى انك فى السن ده وشوفت صحبنك فى المشرحه
أعجبني أسلوبك في الحكي جداً
تذكرت فيلم
10 items or less
حيث كانت البطلة تفعل كل شيء تقريباً في محطة تنظيف السيارات فيما إنخرط مورجان فريمان في الرقص مع عمال تنظيف لسيارات على أنغام أغنية
" La Receta"
خيالات صاخبة لا تتلائم مع هدوء و سكينة سدرة المنتهى بكل تأكيد
و لكن ما باليد حيلة
انا للاسف عندى فقدان ذاكرة للاشخاص بشكل غير طبيعى كمان لما بحب اتناسى حد بتنساه بكل سرعه بس موضوع اتناسى ده مش بعمله كتير
اما نجوى الله يرحمها
حاجه مهمة بقى زعلانه انك كنتى فى مصر ومش شوفتك
ماجي
معرفش وقتها كان سنك كام بس كانت كتيرة اوي قصص انهم يقولوا فلان اتوفى و يطلع غلط
وقتها و احنا في المستشفى كل واحد كان بيدينا نتيجة عن زميلتنا مختلفة تماما عن غيره
فمكنش قدامنا اي حل غير اننا نتاكد بنفسنا
الاول قررنا كلنا نخش
بس بعدها خافوا
و لقيت نفسي حتجنن لو معرفتش
كويس انهم مدخلوش
عشان كنت الاقي حد يرجعني بيتي
عارفة
على قد ما المشهد قاسي
بس خلاني مبقتش اخاف من الموت
و شايفاه انه عادي
و هادي
نورتيني
على باب الله
ميرسي يا جميل لشهادتك
انا مشفتش الفلم اللي قلت عليه بس مادام قلت مورجان فريمان يبقى بتتكلم صح
تحياتي للجميع
قطتي
تعليقك الظاهر وصل و انا بنزل تعليقي
بليز متزعليش مني انا كنت نازلة في مؤتمر و اتحبست حبسة وحشة اوي في اخر ما عمر ربنا
تحسي كنا على الحدود مع ليبيا
المرة الجاية انزل اجازة مش مؤتمر و نهيص يا عم ولا يكون في بالك
تحياتي
:D
ya rawa2anak ya haffsat
انا ايضا لدي ذاكرة قويه جا ناحية الصور و ضعيفة جدا ناحية الاسماء و المعلومات لنظريه و ربما كان من دواعي ذلك انني درست الفن التشكيلي و برعت فيه بسبب ذاكرتي البصريه القويه
و احيانا اري شخص اذكر جيدا انه كان معي في الابتدائيه و اتذكر جيدا الكثير من التفاصيل كانها فيلم متحرك يدور داخل راسي
كراكيب
:D
ذو النون
يبقى انت كمان ذاكرتك تصويرية
بس نفسي حد يقلنا ده دلالتها ايه
يعني هل تعني ذكاء اكثر
ولا ايه، تعرف انت؟
اصل الصورة بيبقى فيها معلومات اكتر من الكلام لوحده
او الارقام لوحدها
لو حد رد عليك بلغني و النبي ينوبك فيا ثواب
تحياتي و نورتني
Post a Comment